كنت بإنتظار إنعقاد محاكمة الرئيس السابق حسني مبارك في القاهرة على أحر من الجمر. تركت كل شيء في ذلك اليوم . لم يكن همي التشفى بعميل وظف كل شيء منذ عام 1990 لخدمة مشروع أمريكا واسرائيل وايران لغزو بلدي وتدمير حياة شعبه واحتلاله. تسمرت كثيرا وأنا أتابع ما لم يكن يخطر ببال. إنها إرادة الرحمن الرحيم. وتلك الايام نداولها بين الناس . يوم ليس كمثله يوم. وأي يوم!. إنه اليوم الموعود . فسبحان الله .
ثم ما لبثت تتوارد في ذهني وتلح في المقارنة صور رحلتي الأخطر في حياتي عندما كتب لي العلي القدير ما شرفني به وهي مهمة الدفاع عن سيد شهداء العصر الرئيس صدام حسن في المحكمة الامريكية الايرانية المزدوجة. ليس هناك وجه مقارنة، هذا أكيد. إذن لا حاجة بي لهذه المقارنة: كان هذا قراري الأول. غير أنني أخذت أتراجع عندما لاحظت أن وسائل الإعلام باشرت بالمقارنات وبدأتها قناة العربية رغم ان المعلق قد انصف العراق عندما قال ان محكمة الرئيس صدام حسين جرت تحت الاحتلال بينما محاكمة الرئيس حسني مبارك جرت في ظل حكم وطني مصري. واشار الى هذه انلقطة إشارة حاذقة الكاتب المصري القومي الأستاذ عبد الحليم قنديل رئيس تحرير جريدة صوت الأمة في حديث لقناة الجزيرة بقوله هذه اول محاكمة لرئيس دولة عربي بأرادة وأيد وطنية. ولذلك بت مقتنعا بضرورة ان اكتب عن هذه المقارنة من وجهة نظر قانونية وسياسية وطنية عراقية .
المقارنة بالطبع تتضمن اوجه التشابه واوجه الإختلاف .
لنبدأ إذا باوجه التشابه .
المحاكمتان تتشابهان في حالتين: الأولى ان المتهم في كليهما كان يحتل موقع رئيس جمهورية. أما الحالة الثانية فتكمن في حقيقة توليهما رئاسة دولتين هما الأقدم في العالم كما أن شعبيهما تشرفا بصنع أقدم حضارتين في التاريخ، الحضارة السومرية العراقية التي إبتدأت بها الحضارة البشرية قبل اكثر من ستة آلاف عام تبعتها الحضارة المصرية .
إذن التشابه في حالتين فقط .
ولنر الآن حالات الإختلاف :
أولا: في العراق جرت محاكمة الرئيس الشهيد صدام حسين وهو الرئيس الشرعي لجمهورية العراق بعد أن غزت قوات التحالف الامريكي البريطاني الاسرائيلي الإيراني العراق واسقطت نظامه الوطني في حرب غير مشروعة وفي انتهاك صارخ للقانون الدولي. أما في مصر فالمحاكمة جرت لرئيس مخلوع كان ومايزال اقرب الحكام العرب لثلاثة من اطراف هذا التحلف، وجرت وفي ظل حكم وطني.
في العراق جرت المحاكمة للرئيس الشهيد في محكمة أ نشأها الإحتلال الأجنبي غير الشرعي للعراق، بينما محاكمة الرئيس المخلوع حسني مبارك فقد جرت في محكمة وطنية تشكل جزءا من القضاء الوطني لمصر .
في العراق جرت المحاكمة للرئيس الشهيد بعد أن اسقط الامريكان والبريطانيون والاسرئيليون الحكم الوطني العراقي بالغزو والاحتلال. أما في مصر فالمحاكمة تجري لحسني مبارك بعد أن أسقط الشعب نظاما أقامه ورعاه الامريكان والبريطانيون والاسرئيليون .
في العراق جرت محاكمة الرئيس الشهيد صدام حسين بعد أن أسرته قوات الغزو والاحتلال الأجنبي وهو في خندق المقاومة للغزاة الكفار وبذلك كانت المحاكمة تعبيرا عن إرادة الغزاة المحتلين الأجانب المناقضة لإرادة شعب العراق، بينما تجري محاكمة الرئيس السابق حسني مبارك بعد أن اجبره الشعب المصري على الإستقالة وبعد أن اجبر ابناء مصر الثائرون المجلس العسكري الحاكم على تقديمه للمحاكمة. فكانت إرادة الشعب .
في العراق كان الرئيس الشهيد متهما بمعاقبة عملاء دولة اجنبية كانت وما تزال في حالة حرب مع دولة العراق شعبه، أما في مصر فحسني مبارك متهم بقتل الشعب المصري وخدمة عدوه الأول الكيان الصهيوني .
في العراق كانت هيئة الدفاع عن الرئيس الشهيد منبثقة من ضمير الشعب العراق والشعب العربي في شتى الأقطار العربية وضمت مجموعة من كبار المحامين العراقيين والعرب وضمت وزيري عدل سابقين في قطر وامريكا . وقد تطوعوا جميعا بلا أجر لإظهار الحق ودحض زيف المحتلين وفضح دجلهم وتعسفهم والوقوف بوجه الغزاة. أما في مصر فمحامي مبارك يدافع عن جرائم مبارك لقاء ثمن واضح هو الشهرة والدولار .
في العراق تطوع الوف المحامين للدفاع عن الرئيس ولم تسمح لهم الجهات الامريكية والايرانية التي كانت تدير المحكمة وسلطت على بعضهم مليشيات عملاء الإحتلال الحاكمين فقتلت بعضهم مثلت بجثامينهم وشردت البقية وعرضت عائلاتهم للتهديد والقمع، أما في مصر فقد أتاح الحكم الوطني لمبارك إختيار محاميه الذي تعاملت معه المحكمة بكل احترام .
في العراق كانت محاكمة الرئيس الشهيد بكل فصولها باطلة من الاساس من الناحية القانونية ومنتهكة للقانون الدولي لانها جرت لرئيس دولة شرعي ومن جانب دولة اجنبية غازية محتلة وعلى وفق قانون وضعه الارهابي بول بريمر الحاكم الاستعماري الأول للعراق وعلى يد حكام كانوا دمى يحركها المسؤولون الامريكيون المشاركون في كل فصولها ومعهم عملاء ايران من حكام العراق المحتل. اما في مصر فمحاكمة حسني مبارك فانها تجري لرئيس تنحى عن الحكم باردة شعبه، وتتم بأشراف القضاء المصري التابع للدولة المصرية وعلى وفق القانون المصري النافذ .
في العراق كان الرئيس صدام يدخل قاعة المحكمة رافع الرأس والقامة ويجلس ويتكلم بهيئة معبرة عن كل معاني الرجولة والتحدي والثقة بالله والنفس، وكان هو الذي يحاكم جلاديه من عملاء المحتلين ويتحداهم ومن وراءهم بكل شجاعة وجرأة وفصاحة ، حتى كان محاموه يستمدون منه العزم على مواصلة مهماتهم رغم كل عراقيل ادارة المحكمة وتهديدات مليشيات الحكومة لهم. أما في مصر فقد أَدخل الرئيس السابق مبارك قاعة المحكمة متظاهرا بالمرض محمولا على سرير واختفى وراء نجليه، وأجاب على سؤال القاضي عن وجوده والتهم الموجهة ضده بصوت متحشرج مهزوز بعد ان رفع يده مصحوبة بكلمة "افندم" التي لاتعبر في هذا المقام الا عن الخنوع والذل .
في العراق كانت المحاكمة فضيحة مدوية للاحتلال وذيوله فقد أزالت الكثير من الغموض والإبهام اللذين لفا النظام الوطني وقيادة الرئيس صدام حسين جراء حملة الدعاية الغربية الاسرائيلية الايرانية السوداء الهائلة المعادية للعراق، ولم تستطع كل اجهزة امريكا وحلفائها ان تقدم دليل فساد أو اثراء شخصي غير مشروع واحدا على الرئيس ولا دليلا واحدا على صحة التهمة الموجهة ضده. أما في مصر فقد أخذت تتكشف قبل الجلسة الأولى للمحاكمة جرائم حسني مبارك وفضائحه ومنها قبوله رشوة بمئة وعشرين مليون دولار لدعم حملة الحرب الامريكية على العراق 1990-1991 وسرقة زوجته للتبرعات العربية لمكتبة الاسكندرية ومنها تبرع الرئيس الشهيد ب22 مليون دولار .
وأخيرا شتان بين موت النخيل وموت الاسود حيث لا تموت الا واقفة، وبين موت الجربان الجبناء الذين يموتون الف مرة بالخنوع والذل وخيانة الوطن